فصل: تفسير الآية رقم (57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (56):

{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
{وكذلك} أي مثل التمكين البديع {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي جعلنا له مكانًا {فِى الأرض} أي أرض مصر، روى أنها كانت أربعين فرسخًا في أربعين، وفي التعبير عن الجعل المذكور بالتمكين في الأرض مسندًا إلى ضميره تعالى من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايته والإشارة إلى حصول ذلك من أول الأمر لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى، واللام في {لِيُوسُفَ} على ما زعم أبو البقاء يجوز أن تكون زائدة أي مكنا يوسف وأن لا تكون كذلك والمفعول محذوف أي مكنا له الأمور، وقد مر لك ما يتضح منه الحق {تَّرَكْنَا مِنْهَا} ينزل من قطعها وبلادها {حَيْثُ يَشَاء} ظرف ليتبوأ، وجوز أن يكون مفعولًا به كما في قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] و{مِنْهَا} متعلق بما عنده، وقيل: حذوف وقع حالًا من حيث. وتعقب بأن {حَيْثُ} لا يتم إلا بالمضاف إليه وتقديم الحال على المضاف إليه لا يجوز، والجملة في موضع الحال من يوسف وضمير {يَشَاء} له، وجوز أن يكون لله تعالى ففيه التفات، ويؤيده أنه قرأ ابن كثير. والحسن. وبخلاف عنهم أبو جعفر. وشيبة. ونافع {نَشَاء} بالنون فإن الضمير على ذلك لله تعالى قطعًا {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} بنعمتنا وعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم، وقيل: المراد بالرحمة النبوة وليس بذاك {مَّن نَّشَاء} قتضى الحكمة الداعية للمشيئة {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} بل نوفي لهم أجورهم في الدنيا لإحسانهم، والمراد به على ما قيل: الإيمان والثبات على التقوى فإن قوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (57):

{وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}
{وَلاَجْرُ الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} قد وضع فيه الموصول موضع ضمير {المحسنين} [يؤسف: 56] وجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل تنبيهًا على ذلك، والمعنى ولأجرهم في الآخرة خير، والإضافة فيه للملابسة، وجعل في تعقيب الجملة المثبتة بالجملة المنفية إشعار بأن مدار المشيئة المذكورة إحسان من تصيبه الرحمة المذكورة، وفي ذكر الجملة الثالثة المؤكدة بعد دفع توهم انحصار ثمرات الإحسان فيما ذكر من الأجر العاجل، ويفهم من ذلك أن المراد ممن نشاء من نشاء أن نصيبه بالرحمة من عبادنا الذين آمنوا واستمروا على التقوى. وتعقب بأنه خلاف الظاهر، ولعل الظاهر حمل {مِنْ} [يوسف: 56] على ما هو أعم مما ذكر وحينئذٍ لا يبعد أن يراد بالرحمة النعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال وبالأجر ما كان في مقابلة شيء من ذلك، ويبقى أمر وضع الموصول موضع الضمير على حاله كأنه قيل: نتفضل على من نشاء من عبادنا كيف كانوا وننعم عليهم بالملك والغنى وغيرهما لا في مقابلة شيء من الأعمال وبالأجر ما كان في مقابلة شيء من ذلك، ويبقى أمر وضع الموصول موضع الضمير على حاله كأنه قيل: نتفضل على من نشاء من عبادنا كيف كانوا وننعم عليهم بالملك والغنى وغيرهما لا في مقابلة شيء ونوفي أجور المؤمنين المستمرين على التقي منهم ونعطيهم في الدنيا ما نعطيهم في مقابلة إيمانهم واستمرارهم على التقوى وما نعطيهم في مقابلة ذلك في الآخرة من النعيم العظيم المقيم خير لهم مما نعطيهم في الدنيا لعظمه ودوامه.
واعترض بأن فيه إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من نحو الملك والغنى مع أنه ليس برحمة كما يشعر به كثير من الآيات ويقتضيه قولهم: ليس لله تعالى نعمة على كافر. وأجيب بأن قولهم: في {الرحمن} أنه الذي يرحم المؤمن والكافر في الدنيا ظاهر في صحة ءطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من ذلك، وكذا قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] ظاهر في صحة القول بكون الكافر مرحومًا في الجملة وأمر الإشعار سهل، وقولهم: ليس لله تعالى نعمة على كافر إنما قاله البعض بناءًا على أخذ يحمد عاقبتها في تعريفها. وإن أبيت ولا أظن فلم لا يجوز أن يقال: إنه عبر عما ذكر بالرحمة رعاية لجانب من اندرج في عموم {مِنْ} من المؤمنين.
نعم يرد على تفسير الرحمة هنا بالنعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال والأجر بما كان ما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق وتلا الآية فإنه ظاهر في أن ما يصيب الكافر مما تقدم في مقابلة عمل له وأن في الآية ما يدل على ذلك وليس هو إلا {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء} [يوسف: 56] وقد يجاب بأنه لعله حمل {المحسنين} [يوسف: 56] على ما يشمل الكفار الفاعلين لما يحسن كصلة الرحم ونصرة المظلوم وإطعام الفقير ونحو ذلك، فحصر الدلالة فيما ذكر ممنوع نعم إن هذا الأثر يعكر على التفسير السابق عكرًا بينًا إذ الآية عليه لا تعرض فيها للكافر أصلًا فلا معنى لتلاوتها إثر ذلك الكلام.
وعمم بعضهم الأوقات في {نَّصِيبٍ وَلاَ نُضِيعُ} فقال نصيب في الدنيا والآخرة ولا نضيع أجر المحسنين بل نوفي أجورهم عاجلًا وآجلًا، وأيد بأنه لا موجب للتخصيص وأن خبر سفيان يدل على العموم وتعقب بأن من خص ذلك بالدنيا فإنما خصه ليكون ما بده تأسيسًا وبأنه لا دلالة للخبر على ذلك لأنه مأخوذ من مجموع الآية وفيه ما فيه. وعن ابن عباس تفسير {المحسنين} بالصابرين، ولعله رضي الله تعالى عنه على تقدير صحة الرواية رأى ذلك أوفق بالمقام. وأيًا ما كان في الآية إشارة إلى أن ما أعد الله تعالى ليوسف عليه السلام من الأجر والثواب في الآخرة أفضل مما أعطاه في الدنيا من الملك.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}
{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ} ممتارين لما أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر، وقد كان حل بآل يعقوب عليه السلام ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم: يا بني بلغني أن صر ملكًا صالحًا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه تشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر {فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} عليه السلام وهو في مجلس ولايته {فَعَرَفَهُمْ} لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة أحوالهم يوم المفارقة لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيآتهم وزيهم في الحالين، ولكون همته معقودة بهم وعرفة أحوالهم لاسيما في زمن القحط، ولعله عليه السلام كان مترقبًا مجيئهم إليه لما يعلم من تأويل رؤياه. وروى أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم وأمر بإنزالهم، ولذلك قال الحسن: ما عرفهم حتى تعرفوا إليه. وتعقب ذلك في الانتصاف بأن توسيط الفاء بين دخولهم عليه ومعرفته لهم يأبى كلام الحسن ويدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبه المعرفة بلا مهلة وفيه تأمل.
{وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي والحال أنهم منكرون له لنسيانهم له بطول العهد وتباين ما بين حاليه في نفسه ومنزلته وزيه ولاعتقادهم أنه هلك، وقيل: إنما لم يعرفوه لأنه عليه السلام أوقفهم موقف ذوي الحاجات بعيدًا منه وكلمهم بالواسطة؛ وقيل: إن ذلك لمحض أنه سبحانه لم يخلق العرفان في قلوبهم تحقيقًا لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون فكان ذلك معجزة له عليه السلام، وقابل المعرفة بالإنكار على ما هو الاستعمال الشائع، فعن الراغب المعرفة والعرفان معرفة الشيء بتفكر في أثره فهو أخص من العلم، وأصله من عرفت أي أصبت عرفه أي رائحته ويضاد المعرفة الإنكار والعلم والجهل، وحيث كان إنكارهم له عليه السلام أمرًا مستمرًا في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليه السلام إياهم.

.تفسير الآية رقم (59):

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)}
{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله، ولعله عليه السلام إنما باع كل واحد منهم حمل بعير لما روى أنه عليه السلام كان لا يبيع أحدًا من الممتارين أكثر من ذلك تقسيطًا بين الناس وفيما يأتي إن شاء الله تعالى من قولهم: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] ما يؤيده، وأصل الجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع، وجهاز العروس ما تزف به إلى زوجها، والميت ما يحتاج إليه في دفنه. وقرئ بكسر الجيم {قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} ولم يقل بأخيكم مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم كأنه لا يدري من هو ولو أضافه اقتضى معرفته لإشعار الإضافة به، ومن هنا قالوا في أرسل غلامًا لك: الغلام غير معروف وفي أرسل غلامك معروف بينك وبين مخاطبك عهد فيه، ولعله عليه السلام إنما قال ذلك لما قيل: من أنهم سألوه حملًا زائدًا على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرط عليهم أن يأتوه به مظهرًا لهم أنه يريد أن يعلم صدقهم، وقيل: إنهم لما رأوه فكلموه بالعبرية قال لهم: من أنتم فإني أنكركم؟ فقالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال: لعلكم جئتم عيونًا تنظرون عورة بلادي قالوا: معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد، فقال: كم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الحادي عشر؟، قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم عيونًا وإن ما تقولون حق؟ قالوا: نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون، وقيل: إنه عليه السلام هو الذي اختاره لأنه كان أحسنهم رأيًا فيه، والمشهور أن الأحسن يهوذا فخلفوه عنده، ومن هذا يعلم سبب هذا القول. وتعقب بأنه لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز ولا الحث عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسان في الإنزال ولا الاقتصار على منع الكيل من غير ذكر الرسالة على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل، وقال بعضهم: إنه يضعف الخبر اشتماله على بهت إخوته بجعلهم جواسيس إلا أن يقال: إن ذلك كان عن وحي.
وقال ابن المنير: إن ذلك غير صحيح لأنه إذا ظنهم جواسيس كيف يطلب منهم واحدًا من إخوتهم وما في النظم الكريم يخالفه وأطال في ذلك. وتعقب بأنه ليس بشيء لأنهم لما قالوا له: إنهم أولاد يعقوب عليه السلام طلب أخاهم وبه يتضح الحال.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أنهم لما دخلوا عليه عليه السلام فعرفهم وهم له منكرون جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه فوضعه على يده فجعل ينقره ويطن وينقره ويطن فقال: إن هذه الجام ليخبرني خبرًا هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وكان أبوه يحبه دونكم وإنكم انطلقتم به فالقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال: فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون أن الجام يخبر بذلك، وفيه مخالفة للخبر السابق، وفي الباب أخبار أخرْ وكلها مضطربة فليقصر على ما حكاه الله تعالى مما قالوا ليوسف عليه السلام وقال: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل} أتمه لكم، وإيثار صيغة الاستقبال مع كون هذا الكلام بعد التجهيز للدلالة على أن ذلك عادة مستمرة {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} جملة حالية أي ألا ترون أني أوف الكيل لكم إيفاء مستمرًا والحال أني في غاية الإحسان في إنزالكم وضيافتكم وكان الأمر كذلك، ويفهم من كلام بعضهم التعميم في الجملتين بحيث يندرج حينئذ في ذلك المخاطبون، وتخصيص الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطاب في أثنائه، وأما الإحسان في الإنزال فقد كان مستمرًا فا سبق ولحق ولذلك أخبر عنه بالجملة الإسمية، ولم يقل ذلك عليه السلام بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به، والاقتصار في الكيل على ذكر الإيفاء لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجب العدل، وأما الضيافة فليس للناس فيها حق فخصهم في ذلك بما يشاء قاله شيخ الإسلام.

.تفسير الآية رقم (60):

{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)}
{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} إيعاد لهم على عدم الإتيان به، والمراد لا كيل لكم في المرة الأخرى فضلًا عن إيفائه {وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي لا تقربوني بدخول بلادي فضلًا عن الإحسان في الإنزال والضيافة، وهو إما نهى أو نفي معطوف على التقديرين على الجزاء، وقيل: هو على الأول استئناف لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر. وأجيب بأن العطف مغتفر فيه لأن النهي يقع جزاء، وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الامتياز مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلومًا له عليه السلام، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي وإلا فالبر يقتضي أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن الله سبحانه أراد تكميل أجر يعقوب في محنته وهو الفعال لما يريد في خليقته.